الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (285): {آَمَنَ الرَّسُولُ بما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}{ءامَنَ الرسول} قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى عز وجل في هذه السورة الجليلة الشأن الواضحة البرهان فرض الصلاة الزكاة، والطلاق، والحيض، والإيلاء، والجهاد، وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والدين، والربا ختمها بهذا تعظيمًا لنبيه صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وتأكيدًا وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل، وقد شهد سبحانه وتعالى هنا لمن تقدم في صدر السورة بكمال الإيمان وحسن الطاعة واتصافهم بذلك بالفعل وذكره صلى الله عليه وسلم بطريق الغيبة مع ذكره هناك بطريق الخطاب لما أن حق الشهادة الباقية على مر الدهور أن لا يخاطب بها المشهود له ولم يتعرض سبحانه هاهنا لبيان فوزهم طالبهم التي من جملتها ما حكى عنهم من الدعوات الآتية إيذانًا بأنه أمر محقق غني عن التصريح لاسيما بعد ما نص عليه فيما سلف وإيراده صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة دون تعرض لاسمه الشريف تعظيم له وتمهيد لما يذكر بعده. أخرج الحاكم والبيهقي عن أنس قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم {الرسول ا} قال عليه الصلاة والسلام: «وحق له أن يؤمن» وفي رواية عبد بن حميد عن قتادة وهي شاهد لحديث أنس فينجبر انقطاعه ويحق له أن يؤمن.{ا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ} من الأحكام المذكورة في هذه السورة وغيرها والمراد إيمانه بذلك إيمانًا تفصيليًا، وأجمله إجلالًا لمحله صلى الله عليه وسلم وإشعارًا بأن تعلق إيمانه عليه الصلاة والسلام بتفاصيل ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى عليه مما لا يكتنه كنهه ولا تصل الأفكار وإن حلقت إليه قد بلغ من الظهور إلى حيث استغنى عن ذكره واكتفى عن بيانه، وفي تقديم الانتهاء على الإبتداء مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى من التعظيم لقدره الشريف والتنويه برفعة محله المنيف {والمؤمنون} يجوز أن يكون معطوفًا على الرسول مرفوعًا بالفاعلية فيوقف عليه، ويدل عليه ما أخرجه أبو داود في المصاحف عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ وآمن المؤمنون وعليه يكون قوله تعالى: {كُلٌّ ءامَنَ} جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر؛ وسوغ الابتداء بالنكرة كونها في تقدير الإضافة ويجوز أن يكون مبتدأ، و{كُلٌّ} مبتدأ ثان، و{مِن} خبره، والجملة خبر الأول والرابط مقدر ولا يجوز كون {كُلٌّ} تأكيدًا لأنهم صرحوا بأنه لا يكون تأكيدًا للمعرفة إلا إذا أضيف لفظًا إلى ضميرها ورجح الوجه الأول بأنه أقضى لحق البلاغة وأولى في التلقي بالقبول لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينئذ يكون أصلًا في حكم الإيمان بما أنزل الله والمؤمنون تابعون له ويا فخرهم بذلك، ويلزم على الوجه في الثاني أن حكم المؤمنين أقوى من حكم الرسول صلى الله عليه وسلم لكون جملتهم إسمية ومؤكدة، وعورض بأن في الثاني إيذانًا بتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم وتأكيدًا للإشعار بما بين إيمانه صلى الله عليه وسلم المبني على المشاهدة والعيان وبين إيمان سائر المؤمنين الناشيء عن الحجة والبرهان من التفاوت البين والفرق الواضح كأنهما مختلفان من كل وجه حتى في هيئة التركيب؛ ويلزم على الأول: أنه إن حمل كل من الإيمانين على ما يليق بشأنه صلى الله عليه وسلم من حيث الذات ومن حيث التعلق استحال إسنادهما إلى غيره عليه الصلاة والسلام وضاع التكرير، وإن حمل على ما يليق بشأن آحاد الأمة كان ذلك حطًا لرتبته العلية وإذا حملا على ما يليق بكل واحد مما نسبا إليه ذاتًا وتعلقًا بأن يحملا بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم على الإيمان العياني المتعلق بجميع التفاصيل وبالنسبة إلى آحاد الأمة على الإيمان المكتسب من مشكاته صلى الله عليه وسلم واللائق بحالهم من الإجمال والتفصيل كان اعتسافًا بينًا ينزه عنه التنزيل والشبهة التي ظنت معارضة مدفوعة بأن الاتيان بالجملة الاسمية مع تكرار الإسناد المقوي للحكم لما في الحكم بإيمان كل واحد منهم على الوجه الآتي من نوع خفاء محوج لذلك، وتوحيد الضمير في {مِن} مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المراد بيان إيمان كل فرد فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع كما اعتبر في قوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين} [النمل: 87] وهو أبعد عن التقليد الذي هو إن لم يجرح خدش أي كل واحد منهم على حياله آمن {بالله} أي صدق به وبصفاته ونفى التشبيه عنه وتنزيهه عما لا يليق بكبريائه من نحو الشريك في الألوهية والربوبية وغير ذلك {وَمَلَئِكَتُهُ} من حيث إنهم معصومون مطهرون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاء الوحي ولهذا ذكروا في النظم قبل قوله تعالى: {وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} أي من حيث مجيئهما منه تعالى على وجه يليق بشأن كل منهما ويلزم الإيمان التفصيلي فيما علم تفصيلًا من كل من ذلك والإجمالي فيما علم إجمالًا وإنما لم يذكر هاهنا الإيمان باليوم الآخر كما ذكر في قوله تعالى: {ولكن البر مَنْ ءامَنَ} [البقرة: 177] إلخ لاندراجه في الإيمان بكتبه والثواني كثيرًا ما يختصر فيها، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكتابه بالإفراد فيحتمل أن يراد به القرآن بحمل الإضافة على العهد أو يراد الجنس فلا يختص به والفرق بينه وبين الجمع على ما ذهب إليه إمام الحرمين، والزمخشري وروي عن الإمام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع لأن المفرد يتناول جميع الآحاد ابتداءًا فلا يخرج عنه شيء منه قليلًا أو كثيرًا بخلاف الجمع فإنه يستغرق الجموع أولًا وبالذات ثم يسري إلى الآحاد وهذا المبحث من معضلات علم المعاني وقد فرغ من تحقيقه هناك.{لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} في حيز النصب بقول مقدر مسند إلى ضمير {كُلٌّ} مراعى فيه اللفظ فيفرد أو المعنى فيجمع ولعله أولى والجملة منصوبة المحل على أنها حال من ضمير {مِن} أو مرفوعة على أنها خبر آخر لكل أي يقولون، أو يقول: لا نفرق بين رسل الله تعالى بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل أهل الكتابين بل نؤمن بهم جميعًا ونصدق بصحة رسالة كل واحد منهم وقيدوا إيمانهم بذلك تحقيقًا للحق وتنصيصًا على مخالفة أولئك المفرقين من الفريقين بإظهار الإيمان بما كفروا به فلعنة الله على الكافرين.ومن هنا يعلم أن القائلين هم آحاد المؤمنين خاصة إذ يبعد أن يسند إليه صلى الله عليه وسلم أن يقول لا أفرق بين أحد من رسله وهو يريد إظهار إيمانه برسالة نفسه وتصديقه في دعواها، ومن اعتبر إدراج الرسول في {كُلٌّ} واستبعد هذا قال بالتغليب هاهنا، ومن لم يستبعد إذ كان صلى الله عليه وسلم يأتي بكلمة الشهادة كما يأتي بها سائر الناس أو يبدل العلم فيها بضمير المتكلم لم يحتج إلى القول بالتغليب، وعدم التعرض لنفي التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور إياه وإنما لم يعكس مع تحقق التلازم لما أن الأصل في تفريق المفرقين هو الرسل وكفرهم بالكتب متفرع على كفرهم بهم وإيثار إظهار الرسل على الإضمار الواقع مثله في قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} [البقرة: 136] إما للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة ولو على بعد في الحكم وهو وإن لم يكن فيه بأس إلا أنه ليس في التعرض له كثير جدوى إذ لا مزاحم في الظاهر، وإن كان فقليل أو للإشعار بعلة عدم التفريق للإيماء إلى عنوانه لأن المعتبر عدم التفريق من حيث الرسالة دون سائر الحيثيات وقرأ يعقوب، وأبو عمرو في رواية عنه لا يفرق بالياء على لفظ {كُلٌّ} وقرئ لا يفرقون حملًا على معناه، والجملة نفسها حينئذ حال أو خبر على نحو ما تقدم في القول المقدر ولا حاجة إليه هنا، والكلام على {أَحَدٌ} وإدخال {بَيْنَ} عليه قد سبق في تفسير قوله تعالى: {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} [البقرة: 136]{وَقَالُواْ} عطف على {مِن} والجمع باعتبار المعنى وهو حكاية لامتثالهم الأوامر والنواهي إثر حكاية إيمانهم {سَمِعْنَا} أي أجبنا وهو المعنى العرفي للسمع {وَأَطَعْنَا} وقبلنا عن طوع ما دعوتنا إليه في الأوامر والنوهي، وقيل: {سمعنا} ما جاءنا من الحق وتيقنًا بصحته، و{أطعنا} ما فيه من الأمر والنهي {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} أي اغفر غفرانك ما ينقص حظوظنا لديك، أو نسألك غفرانك ذلك، فغفران مصدر إما مفعول مطلق أو مفعول به ولعل الأول أولى لما في الثاني من تقدير الفعل الخاص المحوج إلى اعتبار القرينة وتقديم ذكر السمع على الطاعة لتقدم العام على الخاص، أو لأن التكليف طريقه السمع والطاعة بعده وتقديم ذكرهما على طلب الغفران لما أن تقدم الوسيلة على المسؤول أقرب إلى الإجابة والقبول، والتعرض لعنوان الربوبية قد تقدم سره غير مرة {وَإِلَيْكَ المصير} أي الرجوع بالموت والبعث وهو مصدر ميمي، والجملة قيل: معطوفة على مقدر أي فمنك المبدأ وإليك المصير وهي تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى المغفرة وفيها إقرار بالمعاد الذي لم يصرح به قبل..تفسير الآية رقم (286): {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}{لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} جملة مستأنفة سيقت إخبارًا منه تعالى بعد تلقيهم لتكاليفه سبحانه بالطاعة والقبول بما له عليهم في ضمن التكليف من محاسن آثار الفضل والرحمة ابتداءًا لا بعد السؤال كما سيجيء والتكليف إلزام ما فيه كلفة ومشقة، والوسع ما تسعه قدرة الإنسان أو ما يسهل عليه من المقدور وهو ما دون مدى طاقته أي سنته تعالى أنه لا يكلف نفسًا من النفوس إلا ما تطيق وإلا ما هو دون ذلك كما في سائر ما كلفنا به من الصلاة والصيام مثلًا فإنه كلفنا خمس صلوات والطاقة تسع ستًا وزيادة. وكلفنا صوم رمضان والطاقة تسع شعبان معه وفعل ذلك فضلًا منه ورحمة بالعباد أو كرامة ومنه على هذه الأمة خاصة. وقرأ ابن أبي عبلة وسعها بفتح السين والآية على التفسيرين تدل على عدم وقوع التكليف بالمحال لا على امتناعه، أما على الأول: فظاهر، وأما على الثاني: فبطريق الأولى، وقيل: إنها على التفسير الثاني لا تدل على ذلك لأن الخطاب حينئذ مخصوص بهذه الأمة وعلى كل تقدير لا دليل فيها على امتناع التكليف بالمحال كما وهم وقد تقدم لك بعض ما يتعلق بهذا المبحث ورا يأتيك ما ينفعك فيه إن شاء الله تعالى.{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} جملة أخرى مستأنفة سيقت للترغيب والمحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير يتضمن مراعاته منفعة زائدة وأنها تعود إليها لا إلى غيرها ويستتبع الإخلال بها مضرة تحيق بها لا بغيرها فإن اختصاص منفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته قاله المولى مفتي الديار الرومية قدس سره وهو الذي ذهب إليه الكثير، وقيل: يجوز أن تجعل الجملتان في حيز القول ويكون ذلك حكاية للأقوال المتفرقة الغير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين ويكون مدحًا لهم بأنهم شكروا الله تعالى في تكليفه حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم وبأنهم يرون أن الله تعالى لا ينتفع بعملهم الخير بل هو لهم ولا يتضرر بعملهم الشر بل هو عليهم ولا يخفى أنه بعيد من جهة قريب من أخرى والضمير في {لَهَا} للنفس العامة والكلام على حذف مضاف هو ثواب في الأول وعقاب في الآخر، ومبين {مَا} الأولى: الخير لدلالة اللازم الدالة على النفع عليه، ومبين {مَا} الثانية: الشر لدلالة على الدالة على الضر عليه وإيراد الإكتساب في جانب الأخير لما فيه من زيادة المعنى وهو الاعتمال، والشر تشتهيه النفس وتنجذب إليه فكانت أجد في تحصيله، ففيه إشارة إلى ما جبلت عليه النفوس ولما لم يكن مثل ذلك في الخير استعمل الصيغة المجردة عن الاعتمال.{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} شروع في حكاية بقية دعواتهم إثر بيان سر التكليف، وقيل: استيفاء لحكاية الأقوال، وفي البحر وهو المروي عن الحسن أن ذلك على تقدير الأمر أي قولوا في دعائكم ذلك فهو تعليم منه تعالى لعباده كيفية الدعاء والطلب منه وهذا من غاية الكرم ونهاية الإحسان يعلمهم الطلب ليعطيهم ويرشدهم للسؤال ليثيبهم، ولذلك قيل وقد تقدم:والمؤاخذة المعاقبة، وفاعل هنا عنى فعل، وقيل: المفاعلة على بابها لأن الله تعالى يؤاخذ المذنب بالعقوبة والمذنب كأنه يؤاخذ ربه بالمطالبة بالعفو إذ لا يجد من يخلصه من عذابه سواه فلذلك يتمسك العبد عند الخوف منه به فعبر عن كل واحد بلفظ المؤاخذة ولا يخفى فساد هذا إلا بتكلف، واختلفوا في المراد من النسيان والخطأ على وجوه، الأول: أن المراد من الأول الترك ومنه قوله: والمراد من الثاني العصيان لأن المعاصي توصف بالخطأ الذي هو ضد الصواب وإن كان فاعلها متعمدًا كأنه قيل: ربنا لا تعاقبنا على ترك الواجبات وفعل المنهيات، الثاني: أن المراد منهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال إذ قلما يتفقان إلا عن تقصير سابق فالمعنى لا تؤاخذنا بذلك التقصير، الثالث: أن المراد بهما أنفسهما من حيث ترتبهما على ما ذكر، أو مطلقًا إذ لا امتناع في المؤاخذة بهما عقلًا فإن المعاصي كالسموم فكما أن تناولها ولو سهوًا أو خطأ مؤد إلى الهلاك فتعاطى المعاصي أيضًا لا يبعد أن يفضي إلى العقاب وإن لم يكن عن عزيمة ولكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة منه وفضلًا فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة واعتدادًا بالنعمة فيه. ويؤيد ذلك مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الطبراني، وقال النووي حديث حسن: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه» وأورد على هذا بأنه لا يتم على مذهب المحققين من أهل السنة والمعتزلة من أن التكليف بغير المقدور غير جائز عقلًا منه تعالى إذ لا يكون ترك المؤاخذة على الخطأ والنسيان حينئذ فضلًا يستدام ونعمة يعتد بها.{رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} أي عبئًا ثقيلًا يأسر صاحبه أي يحبسه مكانه. والمراد به التكاليف الشاقة، وقيل: الإصر الذنب الذي لا توبة له فالمعنى اعصمنا من اقترافه، وقرئ {آصارًا} على الجمع، وقرأ أبيّ ولا تحمّل بالتشديد للمبالغة {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} في حيز النصب على أنه صفة لمصدر محذوف أي حملًا مثل حملك إياه على من قبلنا، أو على أنه صفة لإصرًا أي إصرًا مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا وهو ما كلفه بنو إسرائيل من قتل النفس في التوبة أو في القصاص لأنه كان لا يجوز غيره في شريعتهم وقطع موضع النجاسة من الثياب ونحوها، وقيل: من البدن وصرف ربع المال في الزكاة.{رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} استعفاء عن العقوبات التي لا تطاق بعد الاستعفاء عما يؤدي إليها والتعبير عن إنزال ذلك بالتحميل مجازبًا باعتبار ما يؤدى إليه، وجوز أن يكون طلبًا لما هو أعم من الأول لتخصيصه بالتشبيه إلا أنه صور فيه الإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة، وقيل: هو استعفاء عن التكليف بما لا تفي به القدر البشرية حقيقة فتكون الآية دليلًا على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص عنه وليس بالقوي، والتشديد هاهنا لمجرد تعدية الفعل لمفعول ثان دون التكثير {واعف عَنَّا} أي امح آثار ذنوبنا بترك العقوبة. {واغفر لَنَا} بستر القبيح وإظهار الجميل {وارحمنا} وتعطف علينا بما يوجب المزيد، وقيل: {أَذْهَبَ عَنَّا} من الأفعال {واغفر لَنَا} من الأقوال {وارحمنا} بثقل الميزان، وقيل: {واعف عَنَّا} في سكرات الموت {واغفر لَنَا} في ظلمة القبور {وارحمنا} في أهوال يوم النشور، قال أبو حيان: ولم يأت في هذه الجمل الثلاث بلفظ ربنا لأنها نتائج ما تقدم من الجمل التي افتتحت بذلك فجاء فاعف عنا مقابلًا لقوله تعالى: {لاَ تُؤَاخِذْنَا} {واغفر لَنَا} لقوله سبحانه: {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} {وارحمنا} لقوله عز شأنه: {وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ العفو، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة، ومن آثار عدم تحميل ما لا يطاق الرحمة ولا يخفى حسن الترتيب {أَنتَ مولانا} أي مالكنا وسيدنا، وجوز أن يكون عنى متولي الأمر وأصله مصدر أريد به الفاعل وإذا ذكر المولى والسيد وجب في الاستعمال تقديم المولى فيقال: مولانا وسيدنا كما في قول الخنساء: وخطئوا من قال: سيدنا ومولانا بتقديم السيد على المولى كما قاله ابن أيبك ولي فيه تردد قيل: والجملة على معنى القول أي قولوا أنت مولانا {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} أي الأعداء في الدين المحاربين لنا أو مطلق الكفرة وأتى بالفاء إيذانًا بالسببية لأن الله تعالى لما كان مولاهم ومالكهم ومدبر أمورهم تسبب عنه أن دعوه بأن ينصرهم على أعدائهم فهو كقولك أنت الجواد فتكرم عليّ وأنت البطل فاحْمِ الجار.ومن باب الإشارة في هذه الآيات: {للَّهِ مَا فِي السموات} أي العوالم الروحانية كلها وما استتر في أستار غيوبه وخزائن علمه {وَمَا فِي الأرض} أي العالم الجسماني والظواهر المشاهدة التي هي مظاهر الأسماء والأفعال {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ} يشهده بأسمائه وظواهره فيحاسبكم به وإن تخفوه يشهده بصفاته وبواطنه ويحاسبكم به فيغفر لكم لمن يشاء لتوحيده وقوة يقينه وعروض سيآته وعدم رسوخها في ذاته {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} لفساد اعتقاده ووجود شكه، أو رسوخ سيآته في نفسه {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} [البقرة: 284] لأن به ظهور كل ظاهر وبطون كل باطن فيقدر على المغفرة والتعذيب {الرسول ا} الكامل الأكمل {ا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ} أي صدقه بقبوله والتخلق به فقد كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن والترقي عانيه والتحقق به {والمؤمنون كُلٌّ ءامَنَ بالله} وحده مشاهدة حين لم يروا في الوجود سواه {وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} حين رجوعهم إلى مشاهدتهم تلك الكثرة مظاهر للوحدة يقولون {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} برد بعض وقبول بعض لمشاهدة الحق فيهم بالحق {وَقَالُواْ سَمِعْنَا} أجبنا ربنا في كتبه ورسله ونزول ملائكته واستقمنا في سيرنا {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} أي اغفر وجوداتنا وصفاتنا واستر ذلك بوجودك وصفاتك فمنك المبدأ {وَإِلَيْكَ المصير} [البقرة: 285] بالفناء فيك {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} إلا ما يسعها ولا يضيق به طوقها واستعدادها من التجليات {لَهَا مَا كَسَبَتْ} من الخير والكمالات والكشوف سواء كان ذلك باعتمال أو بغير اعتمال {وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} وتوجهت إليه بالقصد من السوء {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا} عهدك يلنا إلى ظلمة الطبيعة {أَوْ أَخْطَأْنَا} بالعمل على غير الوجه اللائق لحضرتك {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} وهو عبء الصفات والأفعال الحابسة للقلوب من معاينة الغيوب {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن} من المحتجبين بظواهر الأفعال أو بواطن الصفات {قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} من ثقل الهجران والحرمان عن وصالك ومشاهدة جمالك بحجب جلالك {واعف عَنَّا} سيآت أفعالنا وصفاتنا فإنها سيآت حجبتنا عنك وحرمتنا برد وصالك ولذة رضوانك {واغفر لَنَا} ذنوب وجودنا فإنه أكبر الكبائر {وارحمنا} بالوجود الموهوب بعد الفناء {أَنتَ مولانا} أي سيدنا ومتولي أمورنا لأنا مظاهرك وآثار قدرتك {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} من قوى نفوسنا الأمارة وصفاتها وجنود شياطين أوهامنا المحجوبين عنك الحاجبين إيانا لكفرهم وظلمتهم.هذا وقد أخرج مسلم والترمذي من حديث ابن عباس لما نزلت هذه الآية فقرأها صلى الله عليه وسلم قيل له عقيب كل كلمة قد فعلت، وأخرج أبو سعيد والبيهقي عن الضحاك أن جبريل لما جاء بهذه الآية ومعه ما شاء الله تعالى من الملائكة وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له بعد كل كلمة لك ذلك حتى فرغ منها، وأخرج أبو عبيد عن أبي ميسرة أن جبريل لقن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خاتمة البقرة آمين، وأخرج الأئمة الستة في «كتبهم» عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» وأخرج الطبراني بسند جيد عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى كتب كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان» وأخرج ابن عدي عن ابن مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنزل الله تعالى آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي عام من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل» وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش فتعلموهما وعلموهما نساءكم وأبناءكم فإنهما صلاة وقرآن ودعاء» وفي رواية أبي عبيد عن محمد بن المنكدر أنهن قرآن وأنهن دعاء وأنهن يدخلن الجنة وأنهن يرضين الرحمن، وأخرج مسدد عن عمر رضي الله تعالى عنه والدارمي عن علي كرم الله تعالى وجهه كلاهما قال: ما كنت أرى أحدًا يعقل ينام حتى يقرأ هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة. والآثار في فضلها كثيرة وفيما ذكرنا كفاية لمن وفقه الله تعالى. اللهم اجعل لنا من إجابة هذه الدعوات أوفر نصيب، ووفقنا للعمل الصالح والقول المصيب، واجعل القرآن ربيع قلوبنا وجلاء أسماعنا ونزهة أرواحنا ويسر لنا إتمام ما قصدناه ولا تجعل لنا مانعًا عما بتوفيقك أردناه، وصل وسلم على خليفتك الأعظم، وكنزك المطلسم، وعلى آله الواقفين على أسرار كتابك، وأصحابه الفائزين بحكم خطابك ما ارتاحت روح وحصل لقارع باب جودك فتوح.
|